عكست المقابلة التلفزيونية التي أجرتها قناة "الإخبارية السورية" مساء أمس مع الرئيس السوري بشّار الأسد إحساساً واضحاً لديه بالثقة بالنفس وبالقدرة على مواجهة الحرب التي يعتبرها كونيّة على سوريا.ويرى سياسيّ عربي مخضرم أنّ هذه الثقة لدى الأسد بقوّة النظام السوري مستمَدّة أساساً من التقدّم الميداني الذي حقّقه الجيش السوري في غير منطقة من مناطق القتال في سوريا، والتي أظهرت أنّ هذا الجيش قادر على هزيمة المجموعات المقاتلة في أيّ منطقة يريد استعادة السيطرة عليها.
أمّا المصدر الثاني لهذه الثقة، فهو الورقة السياسية الكبيرة التي منحه إيّاها بروز دور "القاعدة" في هذه الحرب بكلّ ما يعنيه هذا البروز من إحراج لدول الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، لا سيّما أنّ هذه الدول تعتبر نفسها أنّها تخوض حرباً عالمية ضد الإرهاب، وهي حرب أدّت الى احتلال بلدين في المنطقة، وإلى حشد قوى عالمية لمصلحتها في مواجهة لا تستطيع أيّ دولة أو قوّة التقليل من مخاطرها.
وبلا شكّ، وحسب ما يرى هذا السياسي المخضرم، أنّ تزامن التقدّم الميداني للجيش السوري مع انكشاف دور "القاعدة" وأخواتها في سوريا أتاح للرئيس السوري أن ينتقل الى موقع الهجوم على القوى المناوئة له محلّياً وإقليمياً ودوليّاً، خصوصاً حين كرّر أكثر من مرّة أنّ استقواء هذه القوى بالإرهاب سيؤدّي الى حريق في المنطقة، وحتى في دول الغرب نفسها.
ولعلّ كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من منبر مشترك مع وزير خارجيّة تركيا أحمد داود اوغلو في أنقرة أمس، يصبّ في الاتجاه ذاته، حيث إنّ دمشق كما موسكو باتتا تدركان أنّهما أصبحتا في موقع سياسيّ يسمح لهما بالضغط على الدول الداعمة للمسلّحين في سوريا.
وبمقدار ما هو مهمّ كلام الأسد في حديثه التلفزيوني، فإنّ المهم أيضاً هو ما امتنع عن قوله في هذا الحديث، فهو مثلاً على رغم إشاراته الواضحة الى الأردن وتحميله مسؤولية دخول آلاف المسلحين من حدوده مع سوريا، فإنّه تجنّب الحديث عن دول أُخرى بالإسم، وهي دول تتّهمها أجهزة الإعلام المؤيّدة للأسد بأنّها تقف وراء هؤلاء المسلحين وتدعمهم بالمال والسلاح والإعلام، ولا سيّما منها الدول الخليجية التي تجنّب الرئيس السوري أيّ إشارة إليها في حديثه.
وحتى في المسألة اللبنانية، فقد تجاوز الأسد الإجابة على سؤال يتعلق بالتغيير الحكومي في لبنان، ناهيك عن الإشارة الى كلّ ما يجري على الحدود السورية ـ اللبنانية، وكأنّه يوحي بوجود تفاهم إقليميّ ودولي على دعم الاستقرار في لبنان، وأنّ سوريا لا تريد أن تعترض عليه أو تواجهه.
وعلى الرغم من أنّ الأسد حرص طوال حديثه التلفزيوني على أن يشير إلى مؤامرة تتعرّض لها بلاده منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأحداث، وهو ما تكشف تطوّرات هذه الاحداث عن وجودها، إلّا أنّه أشار الى وجود ثغرات وأخطاء موجودة استغلّها مَن يعتبرهم متآمرين على سوريا.
واختيار الأسد مناسبة عيد الجلاء الأجنبي عن دمشق للإدلاء بحديثه المتلفز، فذلك لكي يؤكّد أنّ ما تواجهه سوريا هو محاولة لاستعمارها من جديد عبر انتهاك سيادتها وإخضاعها للقرار الخارجي، وهنا يُفهم تركيزه على مسألة السيادة في هذا الحديث، كما في كلّ لقاءاته مع المبعوثين الآتين من الخارج. فالسيادة الوطنية، في رأيه، هي المستهدفة، ومعركته هي معركة الدفاع عن هذه السيادة، وبالتالي فإنّ النظام باتت له قضية يمكنه أن يحشد حولها الرأي العام داخل سوريا وعلى المستويين العربي والدولي، وفي الوقت ذاته يُحرج المعارضة الخارجية منها والداخلية، ويدعوها إلى حسم موقفها إمّا مع السيادة الوطنية فتأتي الى طاولة الحوار، وإمّا أن تبقى أسيرة ارتهانها للخارج، أو تردّدها في الداخل، فتخسر فرصة المشاركة في رسم مستقبل سوريا.
ومن اللافت أيضاً في حديث الأسد أنّه لم يبدِ أيّ اعتراض على أيّ شكل للنظام السياسي، برلمانيّاً كان أم رئاسيّاً، إذا اتفق الشعب السوري على شكل هذا النظام. ولذلك أبدى مرونة في ما يتعلق بصلاحيات الرئيس التي تركها أيضاً لمؤتمر الحوار الوطني لكي يحدّدها. وتبرز أهمّية هذه النقطة بالذات إذا تذكّرنا ما تردّد عن خلافات حصلت بين الرئيس السوري والمبعوث الأممي ـ العربي الاخضر الابراهيمي حول مسألة النظام البرلماني في سوريا للتخفيف من صلاحيات الرئيس التي يمنحه إيّاها النظام الرئاسي.
وكان لافتاً في حديث الأسد أيضاً، عدم تعرّضه لدور الابراهيمي المستقبلي عشية انعقاد المجلس الدولي اليوم للاستماع الى تقريره، وما يتردّد عن احتمال استقالته من مهمّته، أو على الأقلّ تعديلها ليصبح مبعوثاً أمميّاً فقط، وهو ما أصرّت دمشق منذ بداية مهمته على أن لا تعتبره ممثلاً لجامعة الدول العربية. وإذا كان البعض يرى في حديث الأسد تعبيراً عن إحساس لدى القيادة السورية بتغييرات حاسمة في الموقف الدولي ممّا يجري على الساحة السورية، خصوصاً مع بروز دور "جبهة النصرة"، فإنّ البعض الآخر يعتقد أنّ هذا الحديث يحمل تصعيداً من جانب سوريا وحلفائها سيواجهه تصعيد أكبر من الاطراف المناوئة.
وحدها الأيام المقبلة والتطوّرات الميدانية، وكذلك السياسية، ستكشف ما إذا كان حديث الأسد يؤذن ببداية الانتصار على المعارضة المسلّحة، أم أنّه يؤشّر إلى دخول سوريا مرحلة أكثر عنفاً، وأكثر دموية في المستقبل.